الهور… أنفاسُ الماءِ وذاكرةُ الطين
- firasalwailypoems
- 15 مارس
- 2 دقائق قراءة
تاريخ التحديث: 20 أبريل

الهور… أنفاسُ الماءِ وذاكرةُ الطين
ليسَ بركةً، ليسَ نهرًا، ليسَ أرضًا مبتلّةً بانتظارِ الجفافِ. الهورُ… جسدٌ مائيٌّ يتنفّسُ بالبخارِ العالقِ فوقَهُ، بالشمسِ التي تضيءُ نصفَ الأشياءِ وتتركُ نصفَها غارقًا في الظلِّ، بالطيورِ التي لا تعرفُ من السماءِ غيرَ انعكاسِها، بالمشاحيفِ التي لا تصلُ لأنّها أصلاً لم تغادرْ.
الماءُ هنا ليسَ صامتًا، بل ذاكرةٌ سائلة، وجهٌ لا يستقرُّ، نايٌ يعبرُ القصبَ كأنّهُ شهقةٌ متأخرةٌ في صدرِ الأرضِ. هناكَ، في البرگهِ، يرقدُ البرهانُ، يُقلّبُ ذيلَهُ في الماءِ، يُراقبُ العمقَ ولا يغرقُ. فوقَ القصبِ المتناثرِ، يقفُ الرُخيويُّ كعلامةِ استفهامٍ لا تنتظرُ إجابةً، في انتظارِ لا شيء، سوى أنْ يمرَّ المشحوفُ تاركًا أثرًا يمحوهُ الموجُ بعدَ لحظةٍ.
المشحوفُ… ظلٌّ يطفو، ذاكرةُ يدٍ تفتحُ مسارًا سرّيًا بينَ القصبِ، يراقبُهُ المرديُّ وهو يشقُّ الماءَ كما يشقُّ الحُلمُ الغفوةَ الأخيرةَ، كما ينحتُ الضوءُ مسارهُ فوقَ السطحِ دونَ أنْ يتركَ خدشًا واحدًا. في العمقِ، حيثُ الأشياءُ لا تظهرُ لكنَّها موجودةٌ، يرسو الشُّمْبِلانُ، يتشبّثُ بالأرضِ فلا تراهُ إلّا حينَ تعلقُهُ الشباكُ، حينَ يسحبُ الصيّادُ الحبالَ، فيأتي الماءُ بما لا يُرى، بما كانَ ينتظرُ أنْ يُكتشفَ.
هناكَ، بينَ الطينِ والريحِ، بينَ البرديِّ الذي يميلُ ولا ينكسرُ، بينَ رائحةِ الماءِ الممزوجِ بالحياةِ التي لا تُفسَّرُ، تقفُ السدانةُ الطينيةُ، ليستْ مجردَ مخزنٍ، بل قلبٌ يحفظُ أسرارَ الطحينِ، الحنطةِ، الشعيرِ، كما يحفظُ الهورُ أسرارَ الذينَ مرّوا من هنا، ولم يعودوا. بجانبِها، تتدلّى الشربةُ الفخاريةُ، ليستْ إناءً، بل صدى العطشِ حينَ يهدأُ في راحةِ اليدِ، حينَ يُلامسُ الطينُ شفاهَ العابرِ، حينَ يصيرُ الماءُ أكثرَ من مجرّدِ ماءٍ.
وعندَ أطرافِ المساءِ، حينَ يتكئُ الضوءُ على الماءِ قبلَ أنْ ينسحبَ تمامًا، تجتمعُ الأصواتُ عندَ التسيورةِ، لا أحدَ يروي القصصَ، بل القصصُ هي التي تروي نفسَها، لا أحدَ يذكرُ المصموطةَ، المهروثةَ، گبةَ المطالِ، لكنَّ رائحتَها تطفو فوقَ النارِ، فوقَ الدخانِ المتراكمِ على الحكاياتِ التي لا تنطفئُ، فوقَ الوقودِ الذي لم يكنْ شجرًا ولا نارًا، بل بقايا الزمنِ تُجفَّفُ، تُكدَّسُ، تُبنى فوقَها سقوفٌ تحميها من المطرِ، تحفظُها كما تحفظُ الأرضُ أسماءَ الذينَ عاشوا هنا، ثم صاروا جزءًا من الهورِ، من طينِه، من مائِه، من طيورهِ التي لا تغادرُ، بل تعودُ كلَّ مساءٍ.
الهورُ لا يكتبُ وداعًا، لأنَّ الماءَ لا يعرفُ الفقدَ، لا يسجّلُ الغيابَ، بل يعيدُ تدويرَ الأشياءِ، يعيدُ تشكيلَ القصبِ، يعيدُ ترتيبَ المشحوفِ في الموجِ، كما يعيدُ كلَّ شيءٍ بطريقةٍ ما.
الهورُ… ليسَ مجرّدَ مكانٍ، بل لغةٌ تُحكى بالماءِ، بالقصبِ، بالطيرِ الذي يحطُّ فوقَ البرگهِ، ثم يرحلُ، ثم يعودُ.
~فراس الوائلي
ميشيغان
Comments